مقالات

شرطي متقاعد يعلم التنفيذيين فن الإنصات

شارك هذا الموضوع:

إيما جيكوبس

الحديث يتدفق بسلاسة مع ريتشارد موليندر. فهو ماهر في الانخراط مع الناس. وهذا ليس بمستغرب، على اعتبار أنه يتدرب يوميا، ويتجاذب أطراف الحديث مع غرباء وهو جالس في عربات القطار. إنها مهارة تحتاج إلى الممارسة والتحسين. وهو يجد الناس “رائعين”، وأغلبهم “لديه قصة رائعة يريد روايتها”.

تستعين الشركات بهذا الجندي ذي الرتبة المنخفضة الذي تحول إلى شرطي، لتدريب موظفيها على فن الانخراط، خاصة مهارة الاستماع. ما يسمح له بالعبور من هذا الباب هو فترة عمله مفاوضا في قضايا الرهائن والأزمات، أثناء مساعدته في تأمين إطلاق سراح ثلاثة عاملين في الأمم المتحدة كانوا رهائن في أفغانستان في عام 2004، وإنقاذ نورمان كيمبر في العراق في عام 2006. يفكر هذا الرجل البالغ من العمر 64 عاماً عميقاً في هذا الموضوع ويقول “الناس يحبون سحر جيمس بوند”. لكن في الحقيقة هو شخص أكثر شبهاً بالشرير الأنيق الذي رأيناه في أحد أفلام الجريمة البريطانية: التمتع بالدعابات الذكية، وارتداء بدلة براقة، ومعطف مضاد للمطر من ماركة أكواسكوتام، ونثر الكلمات النابية والوقحة دون تحفظ.

وهو يقول إن هناك أوجه تشابه في التفاوض في مجالي الأعمال والرهائن. فكلاهما يحتاج إلى وضع عواطفك جانباً. ولكي تفاوض بفاعلية عليك أن تحتفظ بقدر قليل من برودة الأعصاب. “في مفاوضات الأعمال الكبيرة، حيث لديك الفرصة للحصول على أموال كثيرة، عليك أن تكون حريصاً على ألا تقدم أشياء دون مقابل”. أما مع الرهائن، فالمخاطر أعلى، فالأمر مسألة حياة أو موت. والعملية من الناحية الموضوعية صعبة “فأنت تكون مستميتا لمساعدة هؤلاء الناس. والناس قلقون ويشعرون باليأس الشديد. والعائلات تبدو كما لو أنها لا تستطيع عمل شيء، ولا توجد سيطرة على الوضع. الزمن يتوقف أثناء المفاوضات”. ويضيف “إنها حياتك، أما باقي العالم، فربما يصبح متوقفاً أيضاً”.

هذا العمل يسبب توتراً في العلاقات العائلية. ويعلق موليندر الذي تزوج للمرة الثانية على ذلك بقوله “كل هذا مثير للغاية، وكل هذه الأشياء التي تجري، والشخص الجالس في البيت (الزوجة) لا يمر بهذه التجربة، بالتالي هذا أمر صعب”.

وموليندر ينحدر من بلدة بريكستون الواقعة إلى الجنوب من لندن، وكان والده مشرفاً في محل لغسل الملابس، بينما كانت أمه تعتني بأطفالها الستة في المنزل. ترك مدرسة باتيرسي الحكومية وهو في الـ 16 من عمره وسار على خطى إخوته في الالتحاق بالجيش، الذي بقي فيه أربع سنوات قبل تنقله بين وظيفة وأخرى، منها فترات قصيرة قضاها عاملاً للحام المعادن وكاتب حسابات.

وفي عام 1978، وهو في الـ 27 وزوجته حامل بطفلهما الأول، قرر أن الوقت حان للبقاء في عمل ثابت، ولذلك انضم للشرطة. وهو يرى أن خبرته المتنوعة في العمل جعلت منه متعاطفاً مع مجموعة واسعة من الناس.

ويقول “ألقيت القبض على عدد قليل جداً من الثملين لأنني كنت في السابق ثملاً مثلهم. إذا كان الشخص مزعجا وسيئ السلوك بشدة، يجري اعتقاله. لكن في العادة كان الموقف ينتهي بأن أقول للشخص “حسناً يا صديقي، أوجد طريقة للذهاب إلى البيت، فقد مررنا جميعا بهذه التجربة”.

ووفرت له قوة الشرطة كما يقول “حياة رائعة، رائعة. الناس يقللون من أهمية المتعة التي كنا نحصل عليها”. ويضيف “أنت تلعب لعبة الشرطة والحرامية. ولقد أحببت سباق استخدام الذكاء دون اللجوء إلى العنف. وأحياناً أنت تجد نفسك ضد محامين طيبين والمشتبه بهم [الأذكياء]. هذا أمر ممتع”.

نجح بقوة من خلال الدعابة في المواقف الجادة وصداقته المتينة مع زملائه. ففي أحد المرات داس على إبرة، وكان عليه ذات مرة الذهاب إلى مستشفى لفحصه من مرض نقص المناعة المكتسبة “الإيدز”. وفي صباح اليوم التالي وجد جرساً موضوعاً على مكتبه مع ملاحظة كتب عليها “يرجى وضع هذا في رقبتك حتى نستطيع سماعك عندما تأتي”. يقول “كان ذلك هو الشيء الصحيح الذي يجب عمله تماماً”.

وفي تقديره أن الشرطي الجيد هو من ينظر إلى الناس على أنهم بشر. ويقول “الطبقة الاجتماعية والمال لا يشكلان فرقاً، لأن لدينا كثيرا من الأغبياء الحقيقيين الذين يملكون الكثير من المال، وكثيرا من الأغبياء الحقيقيين الذين لا يملكونه”.

اقترح صديق له، بعد أن عمل في تدريب أفراد الشرطة على مهارات مقابلة الأفراد، أن يصبح مفاوضاً لتحرير الرهائن. الإنصات مهم جداً. وقال له هذا الصديق “هل تستطيع فهم الأسباب الكامنة وراء سلوك الناس؟ وهل تستطيع استخدام ذلك لمصلحتك ولمصلحتهم؟”.

كان 70 في المائة من عمل موليندر في وحدة التفاوض حول الرهائن والأزمات في شرطة لندن هو التدخل لوقف عملية انتحار، وعادة ما تضمن ذلك محاولة الحديث مع أحدهم وهو يقف بعيداً على جسر أو مبنى مرتفع. وعادة كان يعود الناس من ذلك المكان المرتفع.

وهو يقول “إنهم يقومون بذلك، لأنهم ملوا الحياة، أو لأنهم افتقدوا المشاعر. وهم لا يعرفون ما يجب عمله، ولذلك ينتهون فوق جسر ما. أنت تحاول التحدث إليهم، وحالماً يبدأون الحديث، عليك الاستماع إليهم بعناية حقيقية”.

وأغلب حالات الرهائن هي جرائم نجمت عن قرار سيئ “غالباً ما يكون الموقف متقلباً للغاية، ويصاحبه الكثير من الصراخ عند بدء التعامل، ثم يبدأون بعد ذلك بالتيقن من أنهم لا يستطيعون عمل شيء حيال ذلك”. وفي مثل هذه الحالات يعاني الشخص صعوبات كبيرة فوق طاقته. والعمل هو إعطاؤهم طريقة للخروج من هذا الوضع.

والأمر الأساسي في المفاوضات هو التقليل من إحساسك بأهميتك، كما يقول موليندر. وإذا ظهر بعد ساعة أن المفاوض فشل في إحراز تقدم يذكر، فربما يتم تبديله بأحدهم ممن لديه طريقة مختلفة في التفاوض.

ويشير إلى أن مفاوضات تحرير الرهائن الدولية أكثر تعقيداً، بسبب وجود الكثير من الفرقاء المشاركين في المشكلة. “انظر مثلاً إلى مفاوضات حصار السفارة في إيران في عام 1980. ذلك لن يحدث أبداً الآن. كان هناك المفاوض والمترجم وهما يطرقان على نافذتك مع التهديد بعصا مكنسة”.

مشهد وسائل الإعلام مختلف أيضا. “مختطفو الرهائن لديهم الآن جمهور أوسع بكثير مما كان لديهم في السابق”. فقد سمحت وسائط الإعلام للمتطرفين بالسيطرة وتضخيم رسالتهم. ويشير إلى قتل الرهائن الغربيين الذين أسرتهم “داعش” إنهم “يحاولون بث الخوف، وإظهار كم هم سيئون”.

وبعد أن تقاعد من العمل في الشرطة في عام 2007، بدأ الحنين لهذا العمل يدفع موليندر لأن يعمل لحساب نفسه، ولذلك قرر تدريس مادة الاتصالات، خاصة مهارة الاستماع للمسؤولين. وهو يعمل حالياً في مؤسسات تدريب مثل مؤسسة آيز وايد أوبيند (العيون المفتوحة جيداً).

ويدعي أنه لا توجد إلا قلة قليلة من الناس الذين يحسنون الاستماع. الإنصات السليم صعب، والتركيز هو الأساس. إنه الفرق بين أن تقود السيارة إلى السوبر ماركت وبين أن تقودها في سباق فورميولا وان.

ويجادل بأن العاملين في قطاع الأعمال بحاجة إلى الإنصات، مثلهم مثل المفاوضين الساعين لتحرير الرهائن، أو الأطباء النفسيين، أو الصحافيين. يحتاج مندوبو المبيعات إلى معرفة الفرص، ويحتاج التنفيذيون إلى فهم القوة العاملة لديهم.

ويلاحظ أن معظم الناس يركزون على “مهارات الإنصات النشط” أي أن تهز رأسك وأن يبدو عليك أنك تركز على ما يقوله الآخرون. وتعريفه للإنصات هو “أن تعرف وتختار وتفسر الكلمات الأساسية التي تحول المعلومات إلى مواد مفيدة من الناحية الاستخباراية”.

ويقول مولندر إن كثيراً من الناس يحسنون التقاط المعلومات، ويلتقطون كثيرا من التفاصيل التي لا قيمة لها، في حين أن “المنصت الحقيقي يلتقط معلومات قيمة ويحولها لمصلحته”.

المصدر: FINANCIAL TIMES

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى