مقالات

عمّان في عيون فقرائها….. الثراء الفاحش يقابله فقر فاحش

شارك هذا الموضوع:

*أحمد أبو خليل

كتب عبدالرحمن منيف في كتابه الجميل “سيرة مدينة: عمان في الأربعينات”، وهو يتذكر حال المدرسة التي كان يرتادها طلاب عمان الأغنياء والفقراء الملاحظةَ التالية: “عدد الطلبة الذين تُقلّهم سيارات خاصة قليل جداً، وربما لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، فعصام بدير توصله سيارة في أغلب الأحيان، وكذلك حسان وزياد منكو، وعبدالله ابو قورة ينقل ولديه عبدالغني ورزق بسيارته البلايموث السوداء ذات الستة مقاعد في بعض المرات، ويتركهم يمشون في مرات أخرى. كان الذين يركبون السيارات يشعرون بالحرج، إنْ لم يكن من زملائهم فَمِن الأساتذة، ولذلك كانوا يخرجون بسرعة، أو يتأخرون لكي يتفادوا النظرات وبالتالي الارتباك، أما محاولاتهم في نقل الأساتذة فكانت تبوء بالفشل، إذْ يفضل هؤلاء أن يكونوا مع الكتلة الكبيرة الراجلة…”. انتهى الاقتباس.

لعل تصفح هذا الكتاب الذي ربما يشكل أهم وثيقة حول الحياة الاجتماعية في عمان الحديثة، يوضح أن عمان كانت قبل نصف قرن أو أكثر قليلاً بلدة متجانسة لا يؤثر وضع الفرد المالي كثيراً على مركزه الاجتماعي وعلاقاته فيها. يؤكد منيف أن تأسيس “سوق اليمانية”، وهو أول سوق متخصص في بيع الملابس المستعملة شكّل أول ظاهرة تمييز بين الفقراء والأغنياء في العاصمة، ولكنه لم يكن تمييزاً فاحشاً.

في تلك الأثناء كان فقراء عمان جزءاً طبيعياً من نسيجها الاجتماعي، بل كان بعضهم ينظر إليها من موقع المشارك وأحياناً المسيطر.

تطورت المدينة وكبرت، وفي الأثناء أخذت تفلت ببطء من بين أيدي وعقول الفقراء، ولم يعد لهم سيطرة على استيعاب نموها.

شرقُ عمان وغربها.. وغربُ غربِها

أحاول فيما يلي الدفاع عن الزعم القائل إن كلاً من الغِنى والفقر في العاصمة عمان، يصبحان يوماً بعد يوم أكثر حدة، وإن مجمل التغيرات العمرانية وخطط التوسع في العاصمة تصب في تعزيز هذا الاتجاه. وبالتالي فإن عمان وهي المدينة التي نَجَت ونأتْ بنفسها لغاية الآن عما تعاني منه كثير من العواصم والمدن الكبيرة، حيث أحزمة الفقر في جانب والأحياء الغنية في جانب آخر، تتخلى يوماً بعد يوم عن هذه الميزة النسبية، لصالح شكل جديد من تجاور الفقر والغنى يتميز بالكثير من القسوة.

عاشت ظاهرة الفقر في عمان زمناً طويلاً متخفية خجولة إلى أن اتضحت وغدت بارزة للعيان منذ نهاية سبعينات وبداية ثمانينات القرن الماضي؛ حينها اشتهر تعبيرا “عمان الغربية” و”عمان الشرقية”، وكان ذلك يجري همساً بين الناس في الفترة الأولى قبل أن يتم الاعتراف به “مكتوباً” عبر الصحف والدراسات والمسميات الرسمية، ومما يذكر هنا أنه عندما أقدمت إحدى الصحف المحلية على نشر هاتين التسميتين في إحدى التحقيقات في منتصف السبعينات أثارت بذلك موجة من النقاش وقدراً كبيراً من الاستغراب.

في ذلك الزمن، كان جبل الحسين والعبدلي واللويبدة وجبل عمان، هي المواقع الرئيسية لـ”غرب عمان”، وكان التسوق من جبل عمان مقتصراً على النخبة، أو على متسوقي المناسبات الخاصة، كالعروس المحظوظة مثلاً، ولا يقترب من هذا التسوق من حيث القيمة والمركز إلا ارتياد محلات جبل الحسين.

كان ذلك مفهوماً ومستوعباً من قبل قاطني المدينة كلهم، ولم يكن التنقل بين أحياء عمان وجبالها يثير أي قدرٍ من الشعور بالغربة، وكان ثراء القاطنين في “الغرب” لا يثير حفيظة الآخرين، وظل هذا الأمر سارياً حتى النصف الثاني من الثمانينات، مع بعض التوسع العمراني الذي حصل باتجاه الشميساني ومنطقة تلاع العلي. حينها كان قاطنو منطقة “جبل الهاشمي” يمازحون أنفسهم بالقول إنهم يسكنون “الهاشميساني”، دلالة على الحلم بالسكن في الشميساني، وهو الحي الجديد والأكثر رقياً آنذاك، وكانت مثل تلك الممازحات إشارات خفيفة على بدء الشعور بالتمايز بين سكان العاصمة.

تبدلات

في السنوات الأخيرة أخذ محتوى هذه المفاهيم يتبدل تدريجياً، ولم يعد غرب عمان كما كان سابقاً، فيما تعزز شرقها وتم تدعيمه بالعديد من المناطق والنشاطات الأخرى التي تُبقي عليه “شرقاً”.

على الصعيد الإنساني، يمكن ملاحظة أن هناك جيلاً جديداً من الأغنياء والفقراء يحمل أعضاؤه عن بعضهم البعض أفكاراً مختلفةً عما كان سائداً بين أغنياء وفقراء الأمس، والانتقال من موقع لآخر، هذه الأيام، يعني انتقالاً من عالمٍ إلى عالم، ومن مجتمع إلى مجتمع، ومن حياة إلى أخرى.

الأخطر في مجمل الظاهرة، أن خطط التجديد والتوسع الحضري للعاصمة تصب في الاتجاه نفسه.

صراع على وسط المدينة

من المواقع التي يتم تقديمها على أنها صاحبة الأولوية في التطوير والتحديث، هو وسط عمان، وقد انتشرت قبل سنوات في خطاب أمانة عمان تسمية “صَحْن عمان”، وهناك العديد من الأفكار التي تم تنفيذها وأخرى قيد التنفيذ، بعضها يسعى إلى تغيير نمط الحياة اليومية في وسط عمان، ومحاولة تغيير طابعه كنمط “شعبي”، يجد فيه بسطاء الناس والفقراء جزءاً مما يمكن تسميته “حيزاً عاماً” يرتادونه بحرية لأهداف شتى؛ منها ما يتعلق بالمعيشة وتحصيل الرزق، ومنها ما يتعلق بغايات “ترفيهية” من مستوى بسيط، وتجري محاولات التغيير باتجاه أنماط قد لا تشكل تطوراً طبيعياً لمجتمع وسط عمان.

الولع بالسياحة

وسط العاصمة، يُراد له أن يتحول إلى ما يشبه “الفولكلور”، ولكن غير المتقن -لسوء الحظ- في كثير من الأحيان. ويجري الدفع بالأوساط الشعبية إلى مواقع أخرى أبعد، ومؤخراً تم تنفيذ عدد من الخطوات التي خلخلت السلوك التنقلي للناس، وخاصة القادمين منهم من شرق عمان وجنوبها، حيث جرى نقل مجمّعات السيارات إلى مواقع أخرى تحت شعار تحديث وسط العاصمة وجَعْله نقطة جذب سياحية، وصدرت مواقف “رسمية” تتحدث بقدر من التعالي، حيث طالبت بأن لا يكون وسط العاصمة مجرد ممر لركاب المواصلات العامة وعابري الطريق، لأنهم يتسببون بأزمات واختناقات مرورية، دون أن ينتبه أصحاب هذا الرأي إلى أن الإنصاف يقتضي أن نتذكر أنّ حافلة ركاب تقل 80 راكباً سوف لا تتسبب باختناقات تعادل 80 سيارة صغيرة يركب كلاً منها شخص واحد.

بطريقة فيها كثير من التخبط والتردد، جرى تفريغ “مجمع سفريات رغدان” القديم، وانتقل المجمع شرقا إلى “المحطة” كموقع مؤقت، وانتظر الجميع 3 سنوات (2003 – 2006) وعندما اكتمل البناء وكشف عنه، تبين فورا أنه غير صالح، فأعيد إغلاقه ثم قيل إنه صرح عمراني كبير لا يجوز أن يكون للنقل، وسمي “مجمع رغدان السياحي”، ورغم مرور 11 عاما على ذلك، فإن زائره سيجد نفسه أمام شبكة كبيرة من المواسير والمظلات المعدنية والممرات والأرصفة إضافة إلى المباني الكبيرة الصماء والمساحات الإسفلتية، ربما بانتظار أن يتشكل صنف جديد من “سياحة المواسير والاسفلت”، حتى يقوم هذا الصرح بمهماته.

بالنتيجة تبعثر نمط حياة اقتصادية واجتماعية تشكل عبر العقود منذ أن أصبحت عمان عاصمة بلدنا. وقد نشرت الصحافة الكثير عن ذلك.

مجتمعات غنى “مغلقة”

منذ زمن، ظهر من يقول، إن خدمة السكن الفاخر غير متوفرة في الأردن وفي عمان تحديدا، وهو هنا يقصد أن مواقع مثل عبدون والصويفية وخلدا ودير غبار وقصورها وفِللها، أصبحت تقليدية، وغير كافية لتحقيق الحد المقبول من فخامة المسكن.

يبرز مثل هذا الرأي في الأردن، وفي بلاد عربية “سبّاقة” في مجال الثراء الفاحش، حيث جرى ويجري العمل على إنشاء مدن سكنية لخاصّة الخاصّة، تكون مواقع مغلقة على مَن في داخلها، ولن يكون بمقدور الآخرين الوصول إليها، كما يصل إلى باقي المواقع، حيث لا تعتبر شوارعها مساحات عامة.

يُعد هذا تطوراً كبيراً في علاقات الفقر والغنى في البلد، ففيما مضى كان الفقراء والأغنياء أبناء بيئة واحدة، وكان الحراك بين الفئتين يجري بشكل طبيعي، ولم يكن ذلك يشكل أزمة كبرى على الصعيد الإنساني، وكان الغني يحرص على استمرار حدٍ معقول من علاقته بباقي المواقع، كجزء من حرصه على تماسكه وتكوينه النفسي الاجتماعي، وتجده يذكّر محدثيه أنه كان فقيراً، أو أنه يحتفظ بعلاقاته مع الفقراء.. إلى آخره. وبالمقابل كان الفقراء يجدون قدراً من التعويض من خلال علاقاتهم السابقة مع الأغنياء ويحتفظون معهم بعلاقات من صنف: “كان جارنا الحيط بالحيط”، أو كنا نلعب معاً في الشارع، ويوصف بعض الأغنياء بأنهم رغم ثروتهم لازالوا يحفظون للصداقة موقعاً، وأنهم لم ينسوا ولم يترفعوا على أقرانهم من الذي “واظبوا” على فقرهم.

هذا الوضع، يتغير الآن بسرعة؛ فالغني قد يعيش منذ بداية حياته في بيئة خاصة لا يشاركه فيها إلا أمثاله في الثراء، وبالفعل فقد نجد الآن كثيراً من الشباب العَمّانيين لا يعرفون وسط مدينتهم، ويحرصون في تنقلهم على تجاوز المرور به.

جغرافيا المكبات

الملاحظة الأخرى تتعلق بالجانب البيئي، حيث يجري الدفع بالنشاطات الأكثر تلويثاً للبيئة نحو الشرق والجنوب، وهو توجه متبع أصلاً، لكن يجري الآن تعزيزه في سياق خطط التطوير والتحديث والتوسع، بحيث غدا واضحاً أن هناك بعداً طبقياً في توزيع النشاطات من حيث طبيعتها وأثرها على حياة الناس.

يمكن هنا التذكير بأن مواقع مثل: عين غزال والرصيفة ثم الخربة السمراء، تعتبر المواقع التي تخدم عمان في مجال مكبات النفايات ومحطات التنقية، وكل المشاريع والأفكار للتوسع في قطاع النفايات عموما ينظر في الاتجاه ذاته.. شرقاً وجنوباً.

يضاف إلى ذلك، أنه تاريخياً، يستوعب شرق عمان وجنوبها كل النشاط الصناعي الملوث للبيئة، وليس سراً أن ملكية أغلب هذه المنشآت تعود لأشخاص لا يقطنون هذه المواقع، وأن سكان هذه المواقع قد لا يجدون عملاً لأبنائهم فيها، وإن وجدوه، فهو لا يتعدى المجالات الهامشية ذات المركز والدخل المتدني. 

ختاماً

لم تعد عمان مجرد شرق وغرب، بل صار هناك أيضاً غرب الغرب وشرق الشرق، بحيث غدا الانتقال بين مواقع المدينة هذه انتقالاً من مجتمع إلى آخر، ومن غير المعروف إن كان صاحب القرار سيتمكن من الاستفادة من تجارب مريرة لمدن وعواصم أخرى، ولغاية الآن تبدو عمان قادرة على تجاوزها. 

*الغد

*ملاحظة: هذا المقال مبني على دراسة ومتابعات أوسع.

_

يمتلك مبيضين خبرة تقارب الـ 10 اعوام في مجال العمل الصحافي، ويعمل حاليا، سكرتير تحرير ميداني في صحيفة الغد اليومية، وصحافيا متخصصا في تغطية أخبار قطاع الإتصالات وتكنولوجيا المعلومات، الملكية الفكرية، الريادة، والمسؤولية الإجتماعية. ويحمل مبيضين شهادة البكالوريوس من جامعة مؤتة – تخصّص ” إدارة الأعمال”، كما يعمل في تقديم إستشارات إعلامية حول أحداث وأخبار قطاع الإتصالات وتكنولوجيا المعلومات الأردني. Tel: +962 79 6542307

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى